كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [السجدة: 25] وقوله: {ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55] وغير ذلك من الآيات.
ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: {إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة: 22] وقوله: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار} [ابراهيم: 48] وهذان الوصفان أعنى الاحسان والظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.
ويؤيده ظاهر قوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} [النحل: 61] فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الإنسان وسائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.
ولا يلزم من شمول الأخذ والانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوى الإنسان في الشعور والإرادة ويرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته وروحياته، والضرورة تدفع ذلك، والاثار البارزة منها ومن الإنسان تبطله.
وذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ والانتقام والحساب والاجر بين الإنسان وغيره لا يقضى بالمعادلة والمساواة من جميع الجهات كما لا يقتضى الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجرى حساب أعمالهم من حيث المداقة والمناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل والسفيه والرشيد والمستضعف في موقف واحد.
على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذى حكى عن نملة سليمان بقوله: {حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} [النمل: 18] وما حكاه من قول هدهد له عليه السلام في قصة غيبته عنه: {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} إلى آخر الآيات (النمل: 24) فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمة وإدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني ومركباتها.
وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لانواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذى إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد.
وأما السؤال الثالث والرابع أعنى أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه ووحى ينزل عليه؟ وهل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه ولا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، والكلام الإلهى على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك، ولا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي والائمة من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم ما يعتمد عليه في ذلك.
فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهى ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية ويمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر والجزاء، وإن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان- وتؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان وأفضليته من عامة الحيوان- أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية ولا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.
ولنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعيه شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور والإرادة كالانسان.
وليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعنى مقاصد التغذى والنمو وتوليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت ويتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة والشقاوة المرتضعتين من ثدى الشعور والإرادة.
وربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار.
ولذلك يعد أفعال الحيوان كافعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الاقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الاسد إذا رأى فريسته، والهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة والشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.
لكن التأمل في معنى الاختيار والحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة وذلك أن الشعور والإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، ولذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور والإرادة فهو يميز بشعوره الحى ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع ولا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى ازيد من وجدانه وحصول العلم به أراده من فوره وفعله وتصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، وأما ما كان من الامور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشئ من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته وفعله لعدم الجزم بالانتفاع به.
فهذه الامور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جة ما معها من النواقص والموانع والتروى فيها ليميز بذلك أنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها وفعلت كما لو كانت بينه النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، وذلك كالانسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أومسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ وأنه هل هو ماله نفسه ولا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم ونحوه أو مال غيره ولا يجوز التصرف فيه؟ وحينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، ولا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.
وإن لم يشك في أمره وكان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي أراده إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، ولم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.
فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الامور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروى والتفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب وأما لو تميز من أول الأمر أراده ففعله من غير مهل ولم يحتج إلى ترو أصلا فالانسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو ولا تروى إلا لرفع الموانع عن الحكم.
ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوى اختلاف شديد في مبادى اختيارهم أعنى الصفات الروحيةوالأحوال الباطنية من شجاعة وجبن وعفة وشره ونشاط وكسل ووقار وخفة، وكذا في قوة التعقل وضعفه وإصابة النظر وخطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهى الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، وربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفى عنه الاختيار، ولا يرى الشجاع الباسل الابى عن الضيم الموت الاحمر وأى زجر بدنى أمرا فوق الطاقة، ولا يرى لاى مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، وربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور واه، ولا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بإمثال تلك المرجحات إلا تلهيا ولعبا، وأفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي ولا يعبأ بها وبأمرها البالغ الرشيد، وكثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن إعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، والنومة يعتذر بالكسل والسارق أو الخائن يعتذر بالفقر.
وهذا الاختلاف الفاحش في مبادى الاختيار وأسبابه والعرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين وسائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، ويبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر والنهى والعقاب والثواب ونفوذ التصرف وغير ذلك، ويعذورا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادى والاسباب، وهو المتوسط من الاستطاعة والفهم.
فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الدينى أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع وإن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.
والإمعان فيما تقدم يعطى أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة وإن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات وخاصة الحيوانات الاهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل وكذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافه أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك، وهو الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط.
وإذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة وإن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الأنعام عليها عند الموافقة، ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.
وقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} جملة معترضة، وظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، لفظ {من شيء} بيان للفرط الذي يقع التفريط به، والمعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله والقيام بواجب حقه وبيان نعته في الكتاب إلا وقد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.
والمراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شيء مما كان وما يكون وما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الاممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبنى عليها خلقه الانواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا ولا يذهب وجودها سدى، ولا تكون هذه الانواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.
فالاية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: {وما كان عطاء ربك محظورا} [الاسراء: 20]، وقوله: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم} [هود: 56].
وإن كان هو القرآن الكريم وقد سما الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدى إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الارشاد إلى صريح الحق ومحض الحقيقة لم يفرط فيه في بيان كل ما يتوقف على معرفته سعاده الناس في دنياهم وآخرتهم كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} [النحل: 89].
ومما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه إمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر وهو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الاممى في الدنيا، وأن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم ويجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، ويترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى ولطيف قدرته وعنايته بأمر الخليقة والنظام العام الجارى في العالم، ومن أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، وبعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان وما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان.
وقد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان والنظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، وعد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية وهو اليقين بالله سبحانه حيث قال: {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون} [الجاثيه: 4]، والآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.
ومن الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، ويكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شئ، أما في كتاب التكوين فإنه يقضى ويقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالانواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الاممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، وأما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس وسعادة عاجلهم وآجلهم ولا يفرط في ذلك، ومن ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، وبين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم امما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالانسان.
وقوله تعالى: {ثم إلى ربهم يحشرون} بيان لعموم الحشر لهم وأن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، ولذلك أرجع الضمير المستعمل في أولى الشعور والعقل، فقال: {إلى ربهم يحشرون} إشارة إلى أن أصل الملاك وهو المر الذي يدور عليه الرضا والسخط والإثابة والمؤاخذة موجودفيهم.